
محمد أخو خاطر يكتب:
كان التاريخ، إذا شاء أن ينسج خيطه على مهل، يلتقط الإنسان من موضعه الضيق ليضعه أمام أفق أبعد مما يظن. وقد شاء لي التاريخ أن أرى مصر القديمة بعين غير تلك التي يراها المتعجلون؛ عين صقلتها التجربة، وربّاها التأمل الطويل بين ضيق الحاجة ورحابة المعنى. فمنذ ذلك العام البعيد، 2006، حين اشتدت بي الضائقة وضاق العيش حتى صار الصدر أضيق من زقاق، كنت كلما اختنقتُ بالخوف والقلق شدّتني قدماي شدًّا إلى السيدة زينب؛ أجلس خلف المقام أطلب فرجًا، كمن يلوذ بظلّ جبل في صحراء الروح. وكنت بين حين وآخر أسير من السيدة عائشة بمحاذاة سور مجرى العيون، حتى ألقي همومي في النيل العظيم، كأنما الماء وحده قادر على حمل ما لا يحمله البشر.
كنت أتغذى على صبر الحسن البصري، وأستظل بحكمته، ثم أعود إلى الواقع أضرب في شوارعه كما يضرب السائر في متاهة. وفي مساء من تلك المساءات، رأيت ازدحامًا كثيفًا فوق كوبري الجامعة. سألت، فقيل: “ستة أكتوبر مغلق لنقل رمسيس الثاني”. فاندفعت إلى ميدان رمسيس، كأن ثمة نداء خفيًّا يستدعيني لأشهد آخر لياليه في موضعه القديم. كان التمثال على مشارف لحظة خطيرة، فقد أصرّ المهندس المصري على نقله واقفًا، وفي ذلك مجازفة لا يقدم عليها إلا من عرف ثقة المصري القديم بنفسه، أو ورث عنها شيئًا.
مرّ النقل بسلام، وغاب رمسيس في الصحراء، وانشغلتُ أنا بزحام الحياة. ثم داهمني المشهد من جديد يوم افتتاح المتحف المصري الكبير؛ عاد رمسيس إلى الضوء، وارتدت مصر لحظة من أمجادها. يومها تذكرت أن للتاريخ صوتًا لا يصمت، وأن للمصريين جذورًا لا تُقتلع.
غير أنّ بعض من ضاق بهم أفق العصر عادوا يطلّون علينا برؤاهم المبتسرة؛ شابٌ وقف عند التمثال يتلو الآيات التي تتحدث عن فرعون وكفره، ظانًا أنه بذلك ينسف الفخر المصري، ويعيد الناس إلى مربع الذنب التاريخي. فاته أنّ القرآن نفسه قد فصل بين فرعون السلطة والمصريين، وأنه ذكر من بينهم مؤمنين صادقين:
– امرأة فرعون: ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ…﴾ (التحريم 11).
– الرجل المؤمن من آل فرعون: ﴿وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ…﴾ (غافر 28).
– الرجل الذي جاء من أقصى المدينة: ﴿وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى…﴾ (القصص 20).
وسحرة فرعون أنفسهم، ورجاله، ويده التي يبطش بها نفسيًا على قومه، كانوا من بين الذين شهد إيمانهم على بصيرة المصريين لما جائهم من الحق، فأنتصروا له مهما كانت العواقب، فقالوا له: {قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَىٰ مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا ۖ فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ ۖ إِنَّمَا تَقْضِي هَٰذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا}.
ومع أن القرآن عرض الموقف وفق أهم مشاهدة، إلا أنه فتح لنا باب التفكر لنبحث: هل كانت مصر كلها حينذاك كافرة؟ إن فرعون هذا، السيء السمعة، لم يكن إلا رقماً عابراً في تاريخ مصر، لا يمكن اختزال حضارة عميقة تمتد لآلاف السنين في شخص واحد.
وحتى إذا كان بعض الناس أحيانًا يتبعون دين ملوكهم، كما جاء في القرآن: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ}، فهذا لا يعني أن اتباع جماعة معينة لقائد في فترة محددة يمكن أن ينسحب على تاريخ كامل يمتد لأكثر من ستة عشر ألف عام. مثل هذا التعميم يعد جهلًا يصل إلى حد الوقاحة، ويظلم الحضارة المصرية العظيمة التي احتوت في جوفها على مؤمنين وبصيرة وروح توحيدية.
بل إن صديقي الدكتور صابر بدوي أشار إلى أن تراثًا فكريًا وجهدًا بحثيًا توصل إلى ربط بين سيدنا إدريس وتحوت، رمز الحكمة والكتابة والمعرفة والعلم عند الفراعنة. وحتى وإن كانت هذه المقاربة رمزية لا تاريخية قطعية، إلا أنها تدل على شعور عميق بأن الحكمة المصرية القديمة كانت أقرب إلى نور التوحيد منها إلى ظلمة الوثنية.
ومصر التي مرّ بها يوسف عليه السلام، وحكم فيها وهو الموحد العارف بربه، ليست مصر الفرعون الجبار فحسب، بل مصر الناس الذين عرفوا الإيمان، ومصر الذين قاوموا السلطة الظالمة بكلمة الحق، ومصر الذين استجابوا لنداء موسى حين سمعوا دعوته، ومصر التي ظل فيها التوحيد يتردد في طبقات الروح، حتى لو علا فوقه زمنًا صوت المعابد.
إن اختزال تاريخ مصر كله في صورة فرعون موسى جهل بالتاريخ، وحيف في قراءة القرآن، ونقص في الوعي. فمصر لم تكن أرض الوثنية فحسب، بل كانت أرض الأنبياء والمصلحين والمتأملين، وكانت مهد محاولات مبكرة لفكرة الإله الواحد، حتى قبل الرسالات الإبراهيمية بزمن طويل. ولعل الذي يرى تمثال رمسيس واقفًا في مدخل المتحف اليوم يظن أنّ عظمة مصر في أحجارها، ولكن الحقيقة أن عظمتها في تاريخ الإنسان الذي كان يبحث عن الله قبل أن يتحدث الناس عن الفلسفة والدين.
إنّ مصر التي بنت الأهرامات رفعت أعمدة الكرنك، ونقشت على جدرانها عقائدها وأحلامها، لم تكن أرضًا صماء. كانت أرض بحث دائم؛ بحث عن العدل، عن الخلود، عن الروح، وعن الواحد الذي تهفو إليه أفئدة البشر. ومن ضاق أفقه فربط مصر كلها بفرعون واحد، إنما يرى التاريخ بعين واحدة، ولا يسمع من صوته إلا صدى الخوف. أما من نظر بعين العقل والتاريخ، علم أنّ في مصر جذورًا من نور، لا تطفئها قرون، وأن التوحيد لم يكن غريبًا عنها، بل كان جزءًا من سعيها الأزلي نحو المعنى.