محمد أخو خاطر يكتب من الرياض
ليت القارئ يعلم – إن لم يكن يعلم – أن كتاب “شخصية مصر” للدكتور جمال حمدان، ليس كتابًا ككل ما يُكتب، ولا هو مؤلف يُدرَج ضمن فئة الكتب التي يقرأها الناس ثم ينصرفون عنها كما ينصرفون عن سائر ما لا يُؤثر فيهم ولا يُغني عقولهم. وإنما هو – بحق – كتاب يُقرَأ ليُعاد قراءته، ويُفهَم ليُراجَع فهمه، ويُتأمل ليزداد التأمل فيه تعمقًا واستبصارًا.
وما الجزء الثاني من هذه الموسوعة الجليلة إلا حلقة من حلقات عقل فذٍّ، نظر في مصر، لا كما نظر فيها الجغرافيون من قبله، ولا كما نظر فيها المؤرخون، وإنما نظر فيها نظر الحكيم، الذي يربط الأشياء بأسبابها، ويفصل الكليات إلى جزئيات، ثم يجمعها في إحكام لا يقدر عليه إلا من أوتي علمًا جمًّا، ونفسًا صبورًا، وضميرًا لا يرضى بغير الحق.
مصر كما لم تُرَ من قبل
وفي هذا الجزء، يتقدم حمدان خطوة، بل خطوات، على درب الكشف عن جوهر الشخصية المصرية. يرفض التبسيط، ويأبى أن يُقيد مصر في قوالب جاهزة. يدرسها من حيث هي “وحدة حضارية”، لا مجرد حدود على خريطة، أو شعب يسكن أرضًا محدودة. يقرأ في تضاريسها، وفي نهرها، وفي تاريخها، ما لم يُقرأ من قبل، ويستخرج من هذا كله ما يُعِين القارئ على فهم نفسه، قبل أن يفهم بلاده.
لقد كانت الجغرافيا في يده أداة تحليليّة، لا وصفية، وكان النيل عنده أستاذًا لا نهرًا، وكانت الأرض نصًّا يُقرأ كما تُقرأ القصيدة، أو تُتلى السورة.
النيل والمصري: من التربية إلى الطبع
ولم يكن النيل عند حمدان نهرًا فحسب، بل كان مَربًى، وكان مدرسة، وكان صاحب فضل. علّم المصري الصبر، والانتظار، والتخطيط، والتعاون. فرض عليه العمل الجماعي، وألزمه النظام، وحثّه على التوازن بين الرجاء والحذر. ومن هنا، تشكل الطبع المصري، طبع التوفيق بين الأضداد: بين التدين والعقلانية، بين الطاعة والتمرد، بين الثبات والتجدد.
ومن هذه العلاقة الطويلة بين الإنسان والنهر، نشأت الدولة المركزية، لا من عسف حاكم، ولا من طغيان قوة، ولكن من حاجة الري، ومن ضرورة ضبط الفيضان، ومن انتظام الزراعة. ولذلك فإن المصري، منذ فجر التاريخ، كان يعرف الدولة، ويحترم النظام، دون أن يفقد حريته الداخلية، أو نزعته إلى التهكم الساخر الذي يُخفي كثيرًا مما لا يُقال.
عبقرية المكان: جغرافيا تصوغ التاريخ
ولا يقف حمدان عند النيل وحده، بل ينظر إلى الموقع، إلى هذا الموضع الذي شاءت له الجغرافيا أن يكون واسطة العقد بين القارات، ومفتاحًا بين بحرين، وممرًّا للقوافل، وجسرًا للثقافات. من هنا، فهم أن مصر لم تكن أبدًا هامشًا، بل كانت مركزًا، وأنها لم تكن منعزلة، بل منفتحة على العالم، من دون أن تذوب فيه.
ومن هنا أيضًا، جاء الغزو، وجاء الطمع، وجاء التدخل. غير أن مصر لم تكن لقمة سائغة، بل كانت تبتلع الغازي كما تبتلع الأرض ماء الفيضان، تمتصه، ثم تُعيد تشكيله، فتجعله مصريًّا شاء أم أبى.
المصري… شخصية لا تُختزل
وقد أراد حمدان، في فصول هذا الجزء، أن يتحدث عن المصري، لا كما يتحدث العابرون، بل كما يتحدث العارفون. فهو عنده ليس البسيط الساذج، ولا هو الماكر الخبيث، وإنما هو الكائن المعقد البسيط، الذي يملك من طبقات الوعي ما يُدهش، ومن مرونة التكيف ما يُثير الإعجاب.
يرى فيه الحزم واللين، يرى فيه الكد والصبر، يرى فيه القبول الظاهري، والرفض العميق. هو الفلاح، وهو العامل، وهو المثقف، وهو المؤمن، وهو المشكك، وهو الساخر، وهو الحالم.
ويُعجب القارئ، ولا شك، بعمق تحليل حمدان للفلاح المصري، ذلك الكائن الذي عاش على حافة النهر، وقاوم كل ما مرّ عليه من قهر، بالصمت حينًا، وبالتمرد حينًا، وبالحكمة دائمًا. ولم يكن الفلاح عند حمدان طبقة اجتماعية، بل كان رمزا للثبات، ورمزًا للاستمرار، وجذرًا في أرض مصر لا يُقتلع.
الدين والدولة: صراع الحنين والخوف
ويتوقف حمدان طويلًا عند العلاقة بين الدين والدولة، بين الإيمان والسلطة، بين العقيدة والواقع. وهو يرى أن المصريين لم يكونوا متطرفين يومًا، بل كانوا، وما زالوا، أهل اعتدال. يُقبلون على الدين، لكنهم لا يتعصبون، ويتدينون، لكنهم لا يُغالون.
أما الدولة، فقد كانت عندهم قوة لا غنى عنها، ولكنها لم تكن محل محبة. يخشونها أكثر مما يحبونها، ويرجون عدالتها أكثر مما يثقون بها. وهي علاقة لها جذورها في التاريخ، وفي التجربة، وفي الجغرافيا نفسها، التي جعلت الري مشروطًا بالإدارة، والزراعة مشروطة بالتنظيم، والحياة مشروطة بالطاعة.
مصر: كيان لا يُقاس بغيره
ولعل أعمق ما قاله حمدان، في هذا الجزء، هو أن مصر ليست نسخة من أحد، ولا هي قابلة لأن تُصنف بسهولة. ليست شرقية تمامًا، ولا غربية، وليست أفريقية بالتمام، ولا آسيوية، بل هي مزيج خاص، لا يُشبه سواها، ولا يُقارن بغيرها.
ومن هنا، فإن من أراد أن يفهم مصر، فعليه أن يبدأ منها، لا من غيرها. وعليه أن يقرأ خريطتها، وتاريخها، وأمثالها الشعبية، وأغانيها، ونكاتها، وسلوك أبنائها في الأفراح والمآتم، وفي الشكوى والفرح، وفي الخوف والأمل.
قبلة أخيرة في حب مصر
لا أظن القارئ سينتهي من هذا الجزء إلا وقد تغيّر شيء في نظرته إلى مصر، بل إلى نفسه. فـ”شخصية مصر – الجزء الثاني” ليس كتابًا يُحكى، بل تجربة تُعاش، وعقل يُستنار به، وروح تُصقل.
لقد كتب جمال حمدان ما لم يُكتَب، وقال ما لم يُقَل، وسبق عصره بعقود، وربما قرون. وهو لا يزال حاضرًا، لا في كتبه وحدها، بل في كل سؤال جاد يُطرح عن هوية هذه البلاد، وعن سرّها، وعن صبرها، وعن خلودها.