ياسر بن عبدالعزيز المسعود (*)
منذ تأسيس المملكة العربية السعودية، شكّل القانون الركيزة الأساسية لبناء الدولة الحديثة وضمان استقرارها السياسي والاقتصادي والاجتماعي. فقد ساعدت قوة الأنظمة التشريعية على حماية الإنجازات الوطنية، وترسيخ القيم، وتنظيم العلاقة بين الأفراد والمؤسسات، مؤكدةً دور القانون عنصرًا أصيلًا في البنية المؤسسية وركيزةً لتنمية مستدامة ومتوازنة.
وقد أسهمت الإصلاحات القانونية في إعادة تشكيل البيئة الاقتصادية والاستثمارية في المملكة، من خلال بناء منظومة متكاملة تحمي الحقوق، وتعزز النمو، وترسخ ثقة المستثمرين، ما جعل المملكة أكثر انفتاحًا على الاستثمار الأجنبي ووضعها ضمن مصاف الدول المتقدمة. كما أسهمت هذه الإصلاحات في تبسيط الإجراءات، وتعزيز الشفافية والعدالة، وإرساء بيئة قانونية آمنة ومرنة، تُشعر المستثمر بالثقة في استدامة المشاريع وحماية الأموال (الذيابي، 2023).
وتجربة المملكة في تطوير الأنظمة القانونية تمثل نموذجًا استثنائيًا في الدمج بين الأصالة والتجديد، حيث تجاوز القانون دوره التقليدي كأداة تنظيمية ليصبح محركًا للتقدم وركيزة للتنمية الشاملة. وقد نجحت المملكة في بناء بيئة قانونية متينة ترسخ العدالة، وتعزز ثقة المستثمرين، وتفتح آفاقًا للنمو الاقتصادي على المستوى الوطني والدولي، مما يؤكد مكانتها كقوة اقتصادية رائدة تتمتع بالاستقرار والثقة على الصعيد العالمي.
ويُعد الإصلاح الاقتصادي عملية مستمرة تهدف إلى تعزيز كفاءة واستقرار الاقتصاد الوطني، دون ربطه بالضرورة بالأزمات الاقتصادية أو السياسية.
ويشمل هذا الإصلاح جميع التشريعات والسياسات والإجراءات التي تُسهم في تحرير الاقتصاد، وتشجيع الاستثمار، وتسهيل اندماجه مع الاقتصادات الإقليمية والعالمية. وتركز عناصره على تحفيز الصناعة، وتنمية القطاعات الخدمية والمالية، وحماية حقوق الملكية الفكرية، وتوفير مناخ آمن لتطبيق العقود القانونية.
ومن أبرز جوانبه الإصلاح التشريعي الذي يشمل دراسة ومراجعة القوانين القائمة وإحداث تغييرات في النظام القانوني لتحقيق مزيد من الكفاءة والعدالة (موسى،2018).
وقد أعلن سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان سلسلة من المبادرات الإصلاحية التي شكلت تحولًا جذريًّا في المنظومة القانونية، حيث تم تحديث وإصدار أكثر من 110 تشريعات جديدة في مجالات متعددة، بما في ذلك الأنظمة التجارية، والاستثمارية، والمالية.
تهدف هذه الإصلاحات إلى تعزيز بيئة الأعمال، وتسهيل إجراءات بدء وممارسة الأعمال، مما يسهم في تعزيز مكانة المملكة محركًا اقتصاديًا عالميًا مؤثرًا. وقد أسهمت هذه التحديثات في نمو المؤسسات، وزيادة عدد الشركات، مما يعكس نجاح هذه الإصلاحات في جذب الاستثمارات وتعزيز الاقتصاد الوطني (مسلم، 2024؛المشهداني،2024).
ومن أهم هذه الإصلاحات:
▪ نظام الاستثمار (1446): يُعد من أهم الإصلاحات التشريعية في المملكة، ويهدف إلى ضمان حرية الاستثمار، وحماية حقوق المستثمرين، وتوفير حوافز اقتصادية تعزز النشاط الاستثماري. ويكتسب هذا النظام أهميته من كونه يسهم في جذب الاستثمارات المحلية والأجنبية وتعزيز التنمية الاقتصادية المستدامة، كما يضمن الحوكمة وتنظيم الإجراءات الاستثمارية، ويعمل على تسهيل التجارة عابرة الحدود، مع إتاحة استخدام الوسائل البديلة لحل النزاعات التجارية والاستثمارية (نظام الاستثمار، 1446).
▪ نظام الشركات (1443): صيغَ ليشمل جميع الأشكال القانونية المختلفة للشركات، موفرًا المزيد من الحرية والإمكانيات لتأسيس وإدارة الشركات بما يتوافق مع المتطلبات الحديثة للأسواق المحلية والعالمية. وتكمن أهمية هذا النظام في تعزيز التنافسية ودعم الابتكار، حيث يركز على الحوكمة الفعّالة وتنظيم إدارة الشركات بما يسهم في تطوير بيئة أعمال شفافة ومرنة ومستدامة (وزارة التجارة، 2025).
▪ نظام الإفلاس (1439): يُعد أحد أبرز التطورات التشريعية في المملكة، ويهدف إلى تسوية حالات التعثر المالي بما يضمن استمرارية الشركات القابلة للاستعادة وحماية حقوق الدائنين. وتكمن أهمية هذا النظام في تعزيز الاستقرار المالي والاقتصادي، من خلال وضع آليات قانونية واضحة لإدارة حالات الإفلاس، بما يدعم الثقة في بيئة الأعمال ويحفز المستثمرين على ممارسة أنشطتهم الاقتصادية بأمان (نظام الإفلاس، 1439).
▪ نظام التجارة الإلكترونية (1440): تم اعتماده استجابة للتطورات التكنولوجية، يهدف إلى تنظيم المعاملات التجارية عبر الإنترنت وحماية حقوق المستهلكين. وتكمن أهمية هذا النظام في توفير أطر قانونية واضحة للمستثمرين وأصحاب الأعمال لتطوير أنشطتهم التجارية الرقمية، وتعزيز الثقة في البيئة الإلكترونية، بما يسهم في تنمية الاقتصاد الرقمي ودعم الابتكار والتوسع في الأسواق المحلية والعالمية (نظام التجارة الإلكترونية، 1440).
▪ نظامُ الإثبات (1443): يُشكل خطوة جوهرية نحو تحقيق عدالة أكثر فاعلية، حيث نظم وسائل الإثبات التقليدية مثل الشهادة والكتابة، وأدخل وسائل حديثة مثل الأدلة الرقمية والإلكترونية لمواكبة التطور التكنولوجي المتسارع. وتكمن أهمية هذا النظام في تعزيز كفاءة القضاء وتسريع الفصل في القضايا، بالإضافة إلى رفع مستوى الثقة لدى المستثمرين الذين يبحثون عن بيئة قانونية متطورة تضمن سرعة البت في النزاعات التجارية والمالية (نظام الإثبات، 1443).
▪ نظام الأحوال الشخصية (1443): يهدف إلى مواكبة التغيرات الاجتماعية والحفاظ على استقرار الأسرة السعودية. ويشمل النظام أحكام الزواج والطلاق والحضانة والنفقة والإرث بأسلوب قانوني منظم وواضح، بما يحقق مصلحة الأسرة ويقلل من النزاعات. وتكمن أهمية هذا النظام في أن استقرار البنية الاجتماعية يعزز البيئة الاقتصادية، إذ يسعى المستثمر إلى مجتمعات مستقرة تُشكّل قاعدةً صلبة لأي نشاط اقتصادي مستدام (نظام الأحوال الشخصية، 1443).
▪ نظام السجل التجاري (1446): يهدف النظام إلى تنظيم تسجيل الشركات والأعمال التجارية، وتحديد حقوق والتزامات التجار، وضمان الشفافية في المعاملات التجارية. كما يوضح النظام آليات إصدار السجلات، والتزامات التحديث، والعقوبات المترتبة على عدم الالتزام، بما يحقق حماية المستثمرين وتنظيم بيئة الأعمال (نظام السجل التجاري، 1446).
▪ نظام الأسماء التجارية (1446): يهدف النظام إلى تنظيم حماية الأسماء التجارية للشركات والأعمال، وضمان حقوق مالكيها، ومنع التعدي أو التشابه الذي قد يربك السوق والمستهلكين. كما يوضح إجراءات تسجيل الاسم التجاري، وشروط قبوله، ومدة صلاحيته، وآليات التجديد، بالإضافة إلى العقوبات المترتبة على المخالفات، بما يضمن تعزيز الهوية التجارية والشفافية في البيئة الاقتصادية (نظام الأـسماء التجارية، 1446).
▪ نظام المعاملات المدنية (1444): ينظم الأحكام العامة للمعاملات المدنية بين الأفراد والشركات، بما في ذلك البيع، والإيجار، والقروض، والضمانات، والتزامات الأطراف وحقوقهم. كما يحدد النظام طرق إبرام العقود وشروط صحتها، وآليات حل النزاعات المتعلقة بها، مع مراعاة التوافق مع الشريعة الإسلامية وأحكام الأنظمة المدنية، بما يعزز الاستقرار القانوني والثقة في المعاملات التجارية والمدنية (نظام المعاملات المدنية، 1444).
ومما يعكس نجاح هذه الإصلاحات في تعزيز الثقة والبيئة الاستثمارية أن المملكة شهدت تحسنًا ملحوظًا في مؤشرات الاستثمار والأداء الاقتصادي العالمي، ومنها:
▪ مؤشر الحرية الاقتصادية والازدهار: شهدت المملكة العربية السعودية خلال السنوات الأخيرة انفتاحًا متزايدًا ومرونة أكبر في استقطاب الاستثمارات الأجنبية، وهو ما انعكس في تحسن ترتيبها في عدد من المؤشرات الاقتصادية الدولية. وقد أظهرت تقارير متعددة أن دول مجلس التعاون الخليجي عمومًا جاءت في صدارة الترتيب العربي، فيما سجّلت المملكة موقعًا متقدمًا بين الاقتصادات العربية الأكثر تحسنًا في هذا المجال (Heritage Foundation, 2024).
▪ مؤشر “مكافحة الفساد” يُظهر أن المملكة تأتي أيضًا في المركز الثالث عربيًا من حيث قدرات الدولة على السيطرة على الفساد ضمن مؤشرات دول المنطقة (World Bank, 2023).
▪ مؤشر التنافسية العالمي: أسهمت الإصلاحات القانونية والبُنى التنظيمية في المملكة في تحسين موقعها ضمن التصنيفات العالمية. فقد احتلت السعودية المرتبة السابعة بين دول G20 في بعض المحاور، مثل كفاءة الحكومة والتشريعات الاقتصادية (Maal, 2024)، كما جاءت في المرتبة 17 عالميًا في تقرير التنافسية الصادر عن المعهد الدولي للتنمية الإدارية لعام 2025 (Arab News, 2025). يعكس هذا التقدم متانة الأنظمة وقوة الاقتصاد الوطني وتحسين البيئة الاستثمارية.
▪ التصنيف الائتماني: تم تصنيف المملكة بشكل إيجابي من قبل وكالات عالمية مثل موديز وفيتش، ما يعزز الثقة في جدوى الاستثمار فيها. (وكالة التصنيف الائتماني العالمية،2024)
ختامًا: شهدت المملكة العربية السعودية في السنوات الأخيرة تحوّلًا قانونيًا واقتصاديًا استثنائيًا عزّز ثقة المواطن والمستثمر على حد سواء. فقد حولت الإصلاحات التشريعية النظام القانوني من أداة تنظيمية تقليدية إلى محرك فاعل للتقدم والتنمية، وأسست منظومة قانونية متكاملة تعزز الاستثمار، وترسخ العدالة والشفافية، وتبسّط الإجراءات باستخدام التقنيات الحديثة. هذا التوازن بين الأصالة والتجديد يعكس بيئة مستقرة وجاذبة للمستثمرين، ويؤكد أن النظام السعودي اليوم ليس مجرد إطارًا تنظيميًا، بل ركيزة أساسية لتعزيز الثقة، وتحقيق الازدهار المستدام في المملكة.
(*) مؤسس شركة تقاضي العالمية للمحاماة والاستشارات القانونية