بقلم محمد أخو خاطر
لقد انتهيت هذا الأسبوع من القراءة الرابعة لكتاب شخصية مصر وأحب أن أنقل لكم كيف كانت تجربتى معه.
ليست “شخصية مصر” كتابًا اعتياديًا في الجغرافيا أو في التاريخ، بل هو مشروع حضاري مكتمل، يقدم فيه الدكتور جمال حمدان قراءة جديدة ومتفردة للهوية المصرية من منظور يتجاوز السرد التاريخي أو التحليل المكاني المباشر، ليصوغ “علمًا جديدًا لمصر”، كما وصفه هو نفسه. ويأتي الجزء الأول من هذا العمل الموسوعي كمقدمة تأسيسية مكثفة، تحمل ملامح المشروع الفكري المتكامل الذي شيده المؤلف على مدى سنوات طويلة من العزلة البحثية والتأمل الجغرافي العميق.
في هذا المقال، نقدم قراءة نقدية وتحليلية موسعة في الجزء الأول من الكتاب، حيث يعالج حمدان البنية المفاهيمية الأساسية لرؤيته، واضعًا أسس منهجه، ومحددًا المفاتيح الأولية لفهم عبقرية مصر، كجغرافيا ومكان وتاريخ وحضارة وإنسان.
أولًا: مشروع جمال حمدان – جدلية الفكر والجغرافيا
منذ الصفحات الأولى، يعلن حمدان عن هدفه الجوهري: تقديم “شخصية مصر” ككل عضوي، لا كأجزاء مفككة من التاريخ أو الجغرافيا أو الاقتصاد أو الاجتماع. فهو لا يتحدث عن مصر كموقع جغرافي أو ككيان سياسي فحسب، بل كمفهوم حضاري شامل، تحكمه قوانين “العبقرية الجغرافية”، وهي مصطلحه الخاص الذي يدمج بين خصوصية المكان والزمان وتفاعلهما مع الإنسان.
يُعرّف حمدان الجغرافيا بأنها ليست “خريطة صماء”، بل “فن التفسير”، و”علم التكوين”. وهو بذلك يخلخل التصور الكلاسيكي للجغرافيا كعلم محايد يصف الظواهر، ليقدّمها كأداة لفهم روح الأمة، وطبيعة الهوية، ومنطق التاريخ.
ثانيًا: مفهوم “العبقرية الجغرافية” وخصوصية مصر
من المحاور الجوهرية في الجزء الأول، ذلك الذي يعالجه حمدان حول “عبقرية المكان”، ويقصد بها تفاعل الموقع الجغرافي والطبيعة الفيزيائية مع معطيات التاريخ والإنسان، بحيث ينتج “نمط حياة” مميزًا، وهو ما يشكل “شخصية الأمة”.
بالنسبة لمصر، يرى حمدان أنها تتمتع بتركيب جغرافي فريد يجعلها ليست فقط مركزًا للعالم القديم (آسيا، إفريقيا، أوروبا)، ولكنها أيضًا تجمع بين خصائص متعددة من المناخ والتضاريس والموقع الحضاري، وهو ما مكّنها من لعب أدوار حضارية متكررة على مدار التاريخ. فهي، كما يصفها، “هبة الجغرافيا”، وليس فقط “هبة النيل” كما قال هيرودوت.
ويُلاحظ القارئ أن حمدان في هذا الجزء يسعى جاهدًا إلى نقض الفهم التبسيطي الموروث عن “النيل كمصدر وحيد للحضارة المصرية”، ويؤكد على أهمية التفاعل الكلي بين عوامل متعددة: النيل، والموقع، والمناخ، والحدود، والموقع المتوسط بين الأقاليم، والاتصال بالعالم القديم.
ثالثًا: الشخصية المصرية – التكوين والسمات
يناقش حمدان في هذا الجزء الأول عددًا من السمات التكوينية التي أسهمت في تشكيل الشخصية المصرية عبر التاريخ، دون أن يغوص بعد في التفاصيل التاريخية أو السوسيولوجية، بل يكتفي برسم البنية الفلسفية التي سيقوم عليها التحليل لاحقًا.
ومن أبرز السمات التي يشير إليها:
الازدواجية: مصر تحمل في طياتها تناقضات بناءة، مثل الجمع بين البداوة والحضر، وبين العزلة والانفتاح، وبين الاستقرار والثورة. وهذه الازدواجية ليست ضعفًا بل مصدر غنى ومرونة حضارية.
الاستمرارية التاريخية: يوضح كيف أن مصر، بفضل موقعها ونمطها الجغرافي، استطاعت أن تحافظ على كيانها السياسي والثقافي عبر آلاف السنين، مقارنة بكثير من الدول المجاورة التي تعرضت للتفكك أو الذوبان.
التركيب البيئي والسكاني: يشير حمدان إلى العلاقة الجدلية بين الكثافة السكانية والنمط الزراعي، وكذلك إلى وحدة الوادي والدلتا كمنظومة اقتصادية واجتماعية شديدة الترابط.
كل هذه العناصر، في نظر حمدان، تشكل “الهيكل النفسي والاجتماعي العام” للشخصية المصرية، وهو ما سيتم تحليله تفصيليًا في الأجزاء اللاحقة من الكتاب.
رابعًا: منهج الكتاب – التجاوز النقدي للعلوم التقليدية
ما يميز هذا العمل أن حمدان يبتدع منهجًا فكريًا خاصًا، يمكن تسميته بـ”المنهج الجغرافي-التركيبي”، الذي يدمج العلوم الإنسانية والطبيعية في قراءة واحدة للواقع.
ينتقد حمدان بشدة النزعة التفكيكية في الدراسات التاريخية والاجتماعية، ويؤكد أن الشخصية الوطنية لا تُفهم إلا كنسق كلي، لا كحصيلة من الأجزاء المفصولة. كما يهاجم التبعية الفكرية للمناهج الغربية، ويُطالب بتأسيس علم مصري خالص لفهم الذات.
خامسًا: أهمية الكتاب في السياق المعاصر
يمثل الجزء الأول من “شخصية مصر” صرخة فكرية ذات بُعد نهضوي واضح. فحمدان لا يكتب من أجل التأمل النظري فقط، بل يسعى إلى إرساء أسس وعي قومي جديد، يعي أن التحرر السياسي لا يمكن أن يكتمل دون فهم الذات فهمًا علميًا ومعمقًا.
ولذلك، فإن هذا الجزء من الكتاب يُعد تأسيسًا لمشروع استراتيجي لبناء مصر المستقبل، على قاعدة من الفهم الواعي لخصوصيتها الجغرافية والتاريخية، وتحريرها من نماذج الاستنساخ الحضاري أو الاستلاب الثقافي.
إن قراءة الجزء الأول من كتاب “شخصية مصر” لجمال حمدان، هي بمثابة ولوج إلى عقلية استثنائية ترى الجغرافيا لا كعلم ساكن، بل كأداة لفهم التاريخ والحضارة والإنسان. ينجح حمدان في بناء مشروع فكري متماسك، يدمج بين الأصالة والحداثة، وبين العلم والفلسفة، في صيغة يصعب تصنيفها تقليديًا، لكنها تُدهش القارئ وتثير فيه تساؤلات وجودية حول “من نحن؟”، و”لماذا نحن هكذا؟”.
ومن هنا، فإن هذا الجزء التأسيسي لا يمكن اختصاره أو تجاوزه، بل يجب أن يُقرأ قراءة تأملية معمقة، لأنه يُشكل مفتاح الفهم لما سيأتي بعده من تحليل تاريخي وجغرافي وثقافي دقيق، يجعل من “شخصية مصر” كتابًا لا غنى عنه لأي باحث أو قارئ يسعى إلى فهم مصر — لا كما تظهر على الخريطة، بل كما تتجلى في التاريخ والروح.