
قراءة حرة بقلم محمد أخو خاطر
هذا التصريح الشعري يُمثّل بيانًا سياسيًا وثقافيًا ضد الاستبداد، يحمل لغة الدساتير الحديثة، لكنه مكتوب بمداد الشعر الملطخ بالدم. وذلك حين يكتب الشعر في وطنٍ لا يتَهَجَّى أحزانَ قصيدته
لم أعرف الشاعر محمود حسن عبد التواب معرفة شخصية. لم تجمعني به جلسة، ولم أتبادل معه حديثًا أو حتى تحية. لم يقع بصري على وجهه يومًا، ولا وصل إلى سمعي صوته، مذ كنت طفلًا. ومع ذلك، أشعر بيقين داخلي أنه لو ناداني صوته يومًا، فسأعرفه من أول نبرة؛ إذ أن في أذني بقايا من صوت أبيه، الشيخ حسن، الذي كان منبر الجمعة يهتز له، وكان لصوته وقع لا يُنسى، نبرته لا تزال عالقة في الذاكرة كصدى لا يخبو.
تعرفت عليه على طريقتي، عبر القصيدة. ديوانه “العبَّاسة ” كان بابي إليه، وكان لقاؤنا على الورق أكثر صدقًا من أي لقاء جسدي. قرأت العباسة كما لو كنت أُحاور صاحبها، وأجادله في الرأي، وأتلمس ملامحه من بين السطور.
لم أكن في صف العبَّاسة، ولا مع جعفر البرمكي، الذي أعدمه التاريخ ورفعه الشعر. بل وجدتني أميل — دونما قصد — إلى الجارية التي حملت من هارون دون إرادة، تلك التي انتُزع منها نقاءها بغير رغبة، ولم تذق طعم الحب كما ذاقته العبَّاسة. لم تختر مصيرها، بل فُرض عليها. في صمتها الصادق كان وجعي، وفي جرحها رأيت الإنسان قبل الأسطورة.
أحببت صوتها أكثر من جميع الأصوات، لأنها لم تُجمِّل مأساتها، ولم تدَّعِ البطولة، بل كانت الأكثر صدقًا في ساحة مملوءة بالأقنعة. ورغم كل هذا، فإنني أتفق بعمق مع جوهر الديوان: أن الحاكم ليس إلهًا، وأن سيف الرشيد لم يكن واجبًا عليه أن يُشهره، بل كان يكفيه أن يستجيب لصوت الشريعة، أو لصوت القلب. لم يكن في الحب جريمة، بل كان الحقيقة الوحيدة التي يجب حمايتها، لا محاكمتها.
لقد سبق أن تناول جرجي زيدان هذه القصة في روايته الشهيرة، حيث قدَّم معالجة سردية تعتمد على الخيال الروائي وتوسيع الأفق العاطفي والسياسي للشخصيات. ثم جاء من بعده الشاعر عزيز أباظة، فصاغ مسرحية شعرية تحمل نفس الاسم، برؤية درامية مختلفة، تنتمي إلى التراجيديا الكلاسيكية، حيث النبل يصطدم بالقدر.
ورغم أن الرواية والمسرحية تتشاركان في الشخصيات الرئيسية، فإن بينهما تباينًا واضحًا في سرد الحكاية وتأويلها. كلاهما يقدِّم وجهة نظر خاصة، ويضع العبَّاسة في موضع مختلف تمامًا.
ثم جاء محمود حسن، وسلك طريقًا ثالثًا. لم يروِ القصة كما رواها زيدان، ولا كما صاغها أباظة، بل فجَّر بنيتها من الداخل، وكتب نصًّا يضع التاريخ تحت المجهر، ويحاكمه فالديوان لا يروي القصة كحكاية تاريخية، بل يقدمها بطريقة شعرية: كل فصل عبارة عن صوت جديد (العبَّاسة، جعفر، زبيدة، الخيزران، الشاعر، الوزير… وحتى الخليفة هارون نفسه)، وكلهم يتكلمون كما في مسرحية، لكن الشعر هنا هو البطل الحقيقي. هذا التنوع الصوتي لا يُفقد النص وحدته، بل يُعزز من تعددية الرؤى، ويُبرز تعقيد المشهد الشعري والتاريخي. فالقارئ لا يُمنح سردًا خطيًا، بل يُدعى إلى الإنصات لصراع الذاكرة، حيث يتراكم التوتر وتتداخل زوايا الرؤية.
ينتمي ديوان “العبَّاسة” إلى جنس شعري يتقاطع مع ما يُعرف بـ القصيدة الدرامية أو القصيدة المسرحية، حيث يتجاوز حدود القصيدة التقليدية ليتحول إلى مسرحية شعرية متعددة الأصوات. يتألف من 13 مقطعًا، يُمثّل كل منها مشهدًا شعريًا مستقلاً يُلقى غالبًا بصوت داخلي اعترافي، وكأن الشاعر يبني من خلاله مونودراما تمثيلية تحاور الذات والتاريخ معًا. لكنه ليس مجرد بناء درامي، بل نص ذو نفس أنثوي عميق، تتحدث فيه العبَّاسة — أخت هارون الرشيد — عن قصة حب محرَّمة جمعتها بجعفر البرمكي، قصة انتهت بدمٍ على البلاط، جعفر قُتل، والعبَّاسة نُفيت من ذاتها، لكنها لم تصمت، بل تحوّلت إلى صوت شعري يصرخ باسم كل امرأة خُنقت داخل القصور.

الشعر حين ينزل إلى بئر السياسة
في ديوانه الباذخ الجراح “العبَّاسة”، يقتحم الشاعر المصري محمود حسن أروقة التاريخ العباسي، لا بوصفها مشهدًا مكتملًا، بل كـ”بئر عميقة” محفوفة بالندم، ومخضبة بدماء الأخوة، وأنين النساء، وتمثّلات الذكورة الجارحة. ليست “العبَّاسة” شخصية تراثية يُراد إحياؤها، بل هي — كما يشير البناء الكلي للديوان — صوت المرأة في صراعها الوجودي مع نظامٍ أبويّ سياسيّ، هي “الأنا المكسورة” وسط إمبراطورية ناطقة بلسان الرجل، ومتوضئة بدم المحكومين.
يؤسس محمود حسن نصه على تفكيك العلاقة بين الحب والخطيئة، بين الجسد والدولة، بين الشعر والسلطة. وهو بذلك لا يُحاور التاريخ، بل يُسائل بنية فهمنا له.
أولًا: العبَّاسة – جسد الأنثى كخيانة مؤجلة للعرش
في مفتتح الديوان، تستيقظ العبَّاسة، لا بصفتها أنثى عاشقة، بل كامرأة وُلدت في اللحظة الخطأ، داخل بنية سياسية تجعل من العاطفة خيانة، والأنوثة خطرًا على الأمن القومي للخلافة. في القصيدة الأولى، تقول العبَّاسة:
“لو أني أعلم أنَّ السيفَ إلى عُنُقِي
ونِكاحَ العينين العاشقتين يرسِّخُ في دولتهِ كذبَهْ
…
كنتُ عقرتُ حِصَانَهْ
وحرقتُ العَرَبةْ
كَسَّرتُ ذراعيهِ عَبْدتُ الإثمَ ومرتكبَه”
هنا الجسد يتحول إلى ميدان للتمرد السياسي. جسد العبَّاسة لم يعد خاصًّا بها، بل صار مشتركًا بين “السلطة” و”العار”. فجريمتها ليست حب جعفر، بل محاولة أن تكون امرأةً حرة في قلب قصرٍ لا يعترف بالحب إلا كصفقة.
ثانيًا: جعفر البرمكي – الدم حين يُدين العرش
يرسم الديوان صورة “جعفر” لا بوصفه وزيرًا مقتولًا، بل كشهيد للإنسانية في مواجهة الطغيان السياسي. تتعدد أصوات جعفر في الديوان، وتُظهره كشخصية درامية مؤمنة، لكنها مكسورة أمام هول المذبحة.
في المقطع الثاني، يخاطب العبَّاسة قائلاً:
“ما كان بإمكاني أن أمنع ماء
ينسابُ إلى قافيتي
…
كنت أثِمتُ حلالا ما ألقيت البال إلى العِظةِ”
هنا تتحول “القصيدة” إلى جسد، و”القافية” إلى رحم، و”العِظة” إلى سيفٍ مزروع في قلب الدولة. فالعشق بين جعفر والعبَّاسة لم يكن مجرد علاقة، بل تهديدًا صريحًا لبنية الخلافة القائمة على الملك والنسب والطاعة.
وفي ختام الديوان، يقول جعفر مخاطبًا هارون:
“ما أحسنتَ الذَّبحَ وما أحسنتَ وداعي
ما يَشْغلُني الآن بظلمةِ سيفِكَ
كيفَ تحوَّلَ قلبُكُ حتي
لم تغْفِرْ خطأً يمكنُ أنْ يُغْفَرْ ؟”
بهذه المرارة، يحاكم جعفر لا فقط السيف، بل التاريخ الذي يمنح الحاكم سلطة القتل دون مساءلة.
ثالثًا: سلطة النساء – زبيدة والخيزران… الصوت الممنوع والمستبطن
تظهر الشخصيات النسائية الأخرى — مثل “زبيدة” و”الخيزران” — بوصفهن ليس فقط شهودًا على المأساة، بل فاعلات في تكوينها، أو في مواجهتها.
تقول الخيزران:
“ما كنتُ لأحتملَ الطوفان القادمَ يا ولدي، كيْ يجلسَ جَعْفَرُكَ الطِّفلُ على عرشِ المنصور
…
لُعِنَ الملكُ .. آلاعيبُ السَّاسةِ والأمراءْ”
هنا الأم هي “الدولة”، وهي “القاضي”، وهي “السيّاف”، لكنها أيضًا الضحية المغفلة للعبة العروش.
في حين تظهر “زبيدة” على النقيض تمامًا، تُمثّل “الأنثى المتماهية مع السلطة”، تقول:
“الآن زبيدةُ في قصركَ سَيِّدَةٌ ومليكةْ
…
أدوارٌ كُثْرٌ تلْعبُها في مسْرَحِنا، وتُجيدُ اللعبةَ في بضعِ ثوانٍ”
بهذه اللغة المسرحية الساخرة، يكشف الشاعر كيف تتلبّس السلطة بالشهوة، وكيف تُزيف العلاقة بين الرجل والمرأة لتصبح مجرد تبادل رمزي بين القوة والجسد.
رابعًا: الشعر بوصفه شهادة على العار
يحمل المقطع العاشر، المنسوب لأبي العتاهية، عمقًا فكريًا صادمًا، حيث لا يُطرح الشعر كترفٍ أو تأمل، بل كأداة للفضح والنجاة:
“الشعرُ هو الثورةُ والفعلُ الفاضحُ في الطُرُقاتِ العَامَّةِ والصُّوفِيُّ الفاجِرْ
…
الشعرُ عَصى موسى تَتَحَوَّل أفعى معجِزَةً”
هنا لا يمكن للشعر إلا أن يكون سياسيًا، إذ من المحال على الشاعر — كما يقول النص — أن “يكتب في وطنٍ لا يتَهَجَّى أحزانَ قصيدته”.
ويضيف أبو إسحاق:
“مشكلةُ التَّاريخِ الماضي والحاضرِ
جاريةٌ يملِكُها نخَّاسٌ بعدَ الحربِ الأقدسِ والقذِرةْ”
بهذا التوصيف المرير، يعيد الشاعر تأسيس مفهوم الحرية الفردية داخل بنية السلطة، ويعلن أن جذور القهر واحدة: سواء في الماضي أو الحاضر، سواء باسم الدين أو باسم “الأمن القومي”. وأجد أن استخدام الرمز فى المعارضة السياسية المبطنة هو أسلوب احترفه الشاعر فهو يمرر رسائله الثورية عبر النص فلا يستشعرها غير القلب الثوري ولا يلتقطها رادار الأمن فتمر بأمن.
خامسًا: الرؤية الفلسفية – الدولة كقيد أنثوي
في أكثر مقاطع الديوان جرأة، تقول “عصماء” صانعة الفخار:
“أشهدُ أنْ ما ارْتَفَعَتْ من هارونٍ في وجهِي يَدُهُ
يَشْهَدُ ذِمِّيٌّ ما هَدَّتْ دولةُ هارونٍ مَعْبَدَهُ”
تدخل هنا “المرأة العاملة”، “الطبقة الدنيا”، إلى قلب الخطاب السياسي، مؤكدةً أن الدولة التي يُهدها جسد امرأة لا يمكن أن تدوم، وأن بناء القصر على أنقاض النساء هو هشّ بطبيعته. وأنا هنا يعتصرنى الألم عليهاز إذ ان الشعب المنكوب دائما يدفع فاتورة الحكم الجبري يدفع من شرفه كى تشبع رغبات السلطة.
سادسًا: الشعر بوصفه أرشيفًا أخلاقيًا
في لحظة تتقاطع فيها أصوات القتلى مع صوت التاريخ، يعلن جعفر في واحدة من ذُرى الديوان:
“الدولةُ تعني الشورى
…
الدولةُ ليست فردا والحاكمُ ليس إلهًا”
هذا التصريح الشعري يُمثّل بيانًا سياسيًا وثقافيًا ضد الاستبداد، يحمل لغة الدساتير الحديثة، لكنه مكتوب بمداد الشعر الملطخ بالدم. وهى صرخة الموت التى ينطقها الشهيد دفاعًا عن معتقده. وهنا أجد اتساقًا قد يرقى للتطابق بينى وبين الشاعر وأنا اهز رأسي بالموافقة على صرخته وأردد خلفه نفس المعنى.
ديوانٌ يكتبه الموتى في وجه الأحياء
“العبَّاسة” ليست ديوانًا عن شخصيات تاريخية، بل عن الكيفية التي يُقتل بها الإنسان تحت لافتة الدولة، ويُغتال فيها العاشق باسم الحرام، وتُخنق المرأة في شرف القصر. الديوان عمل فنيّ يكتب الحاضر بضمير الماضي، ويحاكم التاريخ بمنطق الشعر، ويُعيد تعريف السلطة من منظور الضحية، لا السلطان. محمود حسن لا يكتب “رثاءً للعبَّاسة”، بل “بيانًا لنساء هذا الزمان” لا يكتب “سيرة جعفر”، بل “صرخة كل رجل عربيّ أُعدِمَ لأن قلبه اختار”.
بهذا المعنى، لا ينتمي هذا الديوان إلى الشعر فقط، بل إلى أدب المساءلة، وأخلاقيات الفن، وكتابة الهامش في مواجهة مركز القمع.
