You are currently viewing هل أخطأ النفيسي… أم أساء الأدب؟
هل أخطأ النفيسي... أم أساء الأدب؟

هل أخطأ النفيسي… أم أساء الأدب؟

بقلم: محمد أخو خاطر

تابعتُ بشغف اللقاء الذي أجراه الإعلامي البارع علي الظفيري مع الدكتور عبدالله النفيسي في برنامج المقابلة على قناة الجزيرة. ولست أخفي سرًّا أنني كنت وما زلت من المعجبين بتجربة الدكتور النفيسي الفكرية والسياسية، تلك التجربة التي سارت في دروب شائكة بين ميادين السياسة والتاريخ، ومتون الفكر الإسلامي وتضاريس الجغرافيا الخليجية والعربية على حد سواء.  

إن تجربة الدكتور النفيسي لا تُختصر في منصب أو موقف، بل هي رحلة ممتدة من التكوين في مصر الملكية، إذ نزل ضيفًا على مدرسة مشهورة (فكتوريا كولدج)، إلى حضوره المميز في الخليج، ثم عبوره الفكري إلى مشارف طهران، وبغداد، وبيروت، ولندن. وهو، وإن نُسب إلى التيار الإسلامي المعتدل، وارتبط اسمه بجماعة الإخوان المسلمين، فقد بدا دومًا أقرب إلى الفكرة منه إلى التنظيم، وإلى التحليل منه إلى الحشد، وإلى الدولة أكثر من الحزب. وله مواقف شهيرة في نقد الراديكالية من داخل المرجعية الإسلامية ذاتها.

ولكن، وبرغم كل هذا التاريخ الحافل، فإن النفيسي في لقائه الأخير ارتكب خطأ لا يمكن المرور عليه مرور الكرام، ولا يصح التهاون في تبيين مغزاه ونتائجه. ففي معرض حديثه عن “طوفان الأقصى”، وفي سياق محاولته إسقاط الحاضر على الماضي، والاستشهاد من التاريخ لتفسير الواقع، لجأ الدكتور إلى الاستعانة بمعركة أُحد، وقال جملة صادمة كررها أربع مرات على مسامع المشاهدين: “أُحد كانت هزيمة”. دون أن يرف له جفن ولا أن يستوقفه الأستاذ الظفيري، الذي لم يعلق، وكأن الرأي لا يحتمل المراجعة أو التعقيب.

هنا، لا تكمن الإشكالية فقط في توصيف المعركة، بل في انتهاك حرمة دلالتها الرمزية والدينية، والخطأ الفادح في القراءة الجيوسياسية والتاريخية للموقف، فضلاً عن تجاهل البعد العقائدي والاستراتيجي لمعركة خالدة شكلت أحد أعمدة التاريخ الإسلامي.

هل كانت أُحد هزيمة؟

لنتوقف قليلاً أمام هذا التساؤل. هل كانت أُحد هزيمة فعلًا؟ أم انتصارًا عسكريًا وتاريخيًا تم إفراغه من محتواه بسبب رؤية مجتزأة للتاريخ؟

لو عدنا إلى جذور المعركة، لوجدنا أن قريش تحركت من مكة صوب المدينة لهدف استراتيجي واضح: القضاء على محمد ﷺ ودولته الفتية، ومنع انتشار دعوته في الجزيرة العربية. كانت المعركة جزءًا من مشروع استئصال، لا منازلة. فهل تحقق ذلك الهدف بعد المعركة؟ لا. بل على العكس، لم تكد تمضي بضع سنوات حتى وُقّع صلح الحديبية، ثم فُتحت مكة، ثم انتشرت رايات الإسلام شرقًا وغربًا.

وحتى في الميدان، فإن المعركة سارت لصالح المسلمين في بدايتها، حيث انكسر جيش قريش وولى الأدبار، وترك الغنائم في الميدان. ثم جاءت الثغرة التي فتحتها مخالفة الرماة لأوامر النبي ﷺ، فاستغلها خالد بن الوليد، الذي لم يكن قد أسلم بعد، فالتف على المسلمين وهاجمهم من الخلف، ما أدى إلى ارتباك وتراجع في الصفوف، لكنه لم يكن انهيارًا ولا هزيمةً عسكريةً بالمفهوم الاستراتيجي. والدليل على ذلك أن النبي ﷺ أعاد تنظيم الجيش عند سفح جبل أُحد، وانسحب العدو دون أن يجرؤ على دخول المدينة أو متابعة القتال.

لقد بدأ المسلمون المعركة بيدٍ عليا، وأخذوا زمامها كما أُمروا. ونجحوا في تفكيك صفوف قريش وإرغامهم على الفرار، حتى إذا تخلّى الرماة عن مواقعهم، طمعًا في غنيمة، جاء الهجوم المعاكس بقيادة خالد بن الوليد، لا لأنه كان منتصرًا من الأصل، بل لأنه استغل فراغًا في التمركز العسكري، لا خللاً في العقيدة أو القيادة.

بل إن الزائر لجبل أُحد اليوم يدرك بحس مكاني وجغرافي بسيط أن انسحاب المسلمين إلى الجبل لم يكن هربًا بل تموضعًا دفاعيًا. ولو كانوا منهزمين، لفروا عبر السهل المفتوح غربًا، لا إلى صدر الجبل حيث يحاصرهم المكان.

إن ما جرى بعد ذلك ليس هزيمة، كما يحلو للبعض أن يصوّر، بل هو إعادة تموضع اضطرارية، وخسائر مؤلمة لا تنفي النصر الاستراتيجي. بل أكثر من ذلك: إن انسحاب قريش من ساحة المعركة دون أن تبقى، دون أن تُكمل مهمتها، دون أن تأسر أو تُبيد، هو إقرار ضمني بالهزيمة،

والأهم من ذلك كله، أن انسحاب خالد بشخصه وعبقريته العسكرية في نهاية المعركة، يمثل في ذاته اعترافًا بهزيمة خالدًا في شخصه، أو على الأقل بالفشل في تحقيق أهدافه العسكرية من الهجوم المضاد. فالمكاسب اللحظية التى لا يمكن الحفاظ عليها لا تعتبر فى ذهنية خالدًا نصرًا ولا تعني شيئًا ما لم تترجم إلى نتائج استراتيجية، وهذا ما أدرك خالد أنه صعب المنال له ولقريش.

من الخطأ إلى الإساءة

من هنا، فإن تكرار الدكتور النفيسي توصيف “أُحد كانت هزيمة” ليس فقط خطأً في القراءة التاريخية، بل إساءة أدب مع مقام النبوة، ومع الصحابة الذين جادوا بأرواحهم يومذاك، ومع المنظومة العقدية التي تعتبر أُحد محطة اختبار، لا لحظة انكسار. لقد تحوّلت المعركة – رغم الثغرة – إلى مدرسة في الطاعة والانضباط، ومثال حيّ على أن الانتصار لا يُقاس بلحظة، بل بالمآلات.

وإن من المؤسف أن يُطلق مفكر بحجم الدكتور النفيسي مثل هذه التوصيفات دون تمحيص، ودون أدنى التفات إلى رمزية المعركة في الوعي الإسلامي، ودون مراعاة لما تمثله من معنى ديني وروحي.

هنا فقط، أدركت أن الدكتور عبدالله، رغم علمه الواسع واطلاعه الممتد، قرأ التاريخ ولم يمنحه روحه، ووقف على النص ولم يتوغل في معناه، بل أسقط حاضرنا بكل توتراته على ماضٍ لا يرضى بتلك الإسقاطات، ولا يقبل أن يُعامل بمعايير العصر، أو يُجتزأ من سياقه.

فهل يدري الدكتور النفيسي أن القرآن نفسه تحدث عن أحد بلغة النصر التربوي؟ فقال تعالى:

“وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ”. وإن كنا لا ننكر أن الحدث جلل والمصيبة كانت كبيرة والتضحيات مؤلمة ومعنويًا كان الدرس قاسيًا على المسلمين فقد شهدوا عواقب مخالفتهم لتعاليم محمد بأم أعينهم.

وإذا كان الأمر كذلك، فكيف يجوز لمسلمٍ، عالمٍ، قارئٍ للتاريخ، أن يختزل تلك الملحمة في كلمة عابرة، فيها من الجرأة على محمد و الصحابة ما الله به عليم؟

أما الإعلامي علي الظفيري، فرغم قدرته العالية في إدارة الحوار، إلا أنه أخطأ – أو تواطأ بالصمت – حين لم يعلّق أو يستدرك، بل ترك تلك العبارة تمر، وكأنها رأي من آراء التاريخ، لا حكم على واقعة من أعظم وقائع الرسالة.

إنني لا أقول إن الدكتور النفيسي أخطأ فقط، فذاك هين، وكل ابن آدم خطاء. لكنني أقول، وبكل أسف، إنه قد أساء الأدب، لا مع التاريخ وحده، بل مع محمد وجيشه، ومع الصحابة الشهداء الذين سُقوا بكأس البطولة دفاعًا عن دين الله.

لم يكن خطأ النفيسي عفويًا أو عابرًا. لقد كان تجاوزًا خطيرًا لمنظومة تاريخية وعقدية يجب صونها من التبسيط والابتذال، خاصة حين يصدر عن مفكر يمتلك أدوات التأويل، ويعلم يقينًا أن كل عبارة منه تُستدعى في سجالات فكرية ودينية واسعة.

إن مراجعة التاريخ لا تعني تسفيهه، والنقد لا يبيح الاستخفاف، والسرد الأكاديمي لا يجيز الإساءة. ولذا، فإنني أرى أن الدكتور النفيسي لم يخطئ فحسب، بل أساء الأدب مع لحظة مفصلية في التاريخ الإسلامي، وعليه أن يعتذر، لا لجيلنا، بل للأجيال القادمة التي تقرأ التاريخ بعيون من نثق بعلمهم.

اترك تعليقاً