بقلم محمد أخو خاطر
ربما فهمت، من خلال حديثي مع شاعرنا الجميل سفيان صلاح هلال ،الذي لا أملّ من اقتناص الفرص لمبادلته النقاشات، خاصة إن كانت النقطة فلسفية، شيئًا جديدًا عن ذاتي وعن الدين. مع سفيان، أقول ما لا أقوله لغيره. لا توجد محاذير. لا أخشى اتهامًا بالكفر، ولا يُقلقني أن يظنني أحدهم على شفا الإلحاد، ولا أتحرج من اعترافاتٍ فكرية قد يراها آخرون جنونًا محضًا. فشاعرنا يقبل أفكاري كما يقبل من بائعة الخضار بضاعتها في سوق الأحد بقريتنا الأشمونين. لا يفاوض، لا ينتقي، بل يبتسم، يضع العملة فوق فرشتها، ويأخذ الحكاية كما هي، بكل تناقضاتها، ويسمح للحوار أن يدنو من الجدار الفاصل بين الكفر والإيمان.
في كل مرة أغوص معه في هذا البحر، أكتشف أن سفيان لا يقرأ أفكاري فقط، بل يراها عارية تمامًا، كأنني طفل صغير، لا تخفى عليه مفاصلي ولا خطوط روحي، كما كانت أمي ترى جسدي حين كنت أركض إليها في طفولتي. لم يكن حديثنا الأخير عن الشعر أو الموت أو التصوف أو الأخوان كما جرت العادة، بل عن أنثروبولوجيا الأديان. قالها لي بنبرة خافتة كمن يخشى أن يسمعه قلبه: “إياك أن تغوص كثيرًا، يا محمد، في أصول الدين، وفي جذور الإيمان، ستجد نفسك، كما وجدتُ نفسي، أمام نهاية بلا نهاية، أمام فراغ بلا جواب، وقد لا تعود.”
حذرني أن لا أكثر من التفتيش في أعماق البدايات الأولى، حيث نشأ الدين كفعل لا كعقيدة، وكحاجة لا كإيمان. أخبرني أنه، ذات يوم، حين جاور نصوص القدماء، وقرأ نقوش الكهوف، وعبر الأساطير التي سبقت التوراة والإنجيل والقرآن، لم يجد الله، بل وجد الإنسان، خائفًا، جائعًا، يحاول أن يُرضي المجهول.
لكنني، في المقابل، لا أرى ما رآه سفيان. أو لعلني أصرّ على أن أبدأ من حيث توقف. أريد أن أقول إن الدين، كل الدين، في بداياته كان ممارسة. لم يكن الناس يؤمنون أولًا، بل كانوا يفعلون. كانوا يُصلّون دون أن يعرفوا لمن، وكانوا يذبحون القرابين، لا لأنهم صدّقوا نبوة، بل لأنهم خشوا أن يفسد المحصول، أو يتأخر المطر.
أذكر وأنا أقرأ مرة عن قومٍ صنعوا “إلهًا” من العجوة، وعبدوه في سفرهم، ثم لما جاعوا، أكلوه. ضحكت. ثم بكيت. ليس سخفًا أن تصنع من العجوة إلهًا. السخف أن تظن أن الدين بدأ من السماء. الحقيقة أن الدين بدأ من الأرض. من القلق. من السؤال. من الموت.
المجتمع الإنساني، في أصوله الأولى، لم يُكوّن عقيدة. كوّن عادة. طقس. أن تطوف حول شجرة، أو أن تصمت حين ترى البرق، أو أن تهمس بشيء حين يُولد طفل. لم تكن هذه “عقائد”، كانت “أفعالًا”. والمثير أن هذه الأفعال، مع الوقت، خلقت معتقدًا، والمعتقد كوّن أسطورة، والأسطورة كوّنت ديانة. وهكذا نشأت الأديان البشرية.
لكن هناك فرق بين الدين كابتكار إنساني، والدين كإلهام رباني. وذاك الخط الرفيع بينهما، ليس خطًا في النصوص، بل في النفس. حين دخلت الديانات السماوية إلى الحلبة، دخلت لتضبط الإيقاع، لا لتنفي التجربة. جاءت لتقول: إن ما تفعلونه صحيح من حيث الشكل، لكنه يحتاج روحًا. فجاءت العقيدة.
العقيدة… تلك الكلمة التي تبدو سهلة، لكنها أصعب ما يكون. ليس لأن الإيمان صعب، بل لأن الهداية لا تأتي لمن يجلس منتظرًا. تأتي لمن يمشي. لمن يُمارس. لمن يقوم من فراشه ليُصلّي، حتى لو لم يشعر بشيء. الممارسة، حتى لو كانت ميتة، فيها حياة كامنة. وفي تجربتي الشخصية، لم أؤمن أولًا، بل فعلت أولًا. كنت أصلي أحيانًا وأنا أقول لنفسي: لماذا أصلي؟ لكني كنت أفعل. ومع الوقت، بدأت أفكر. والتفكير، هو أول خيط للهداية.
ولما تعمّقتُ في الدين، لا كمتدين، بل كباحث، اكتشفت أن كثيرًا من العقائد التي كنت أظنها “نصوصية” بحتة، لها منطق عقلي لم أكن أراه من قبل. مثل اليوم الآخر، أو فكرة الحساب، أو ضرورة الطهارة، أو تنظيم الإرث. كلها كانت تبدو طقسية، لكن حين جلست أتأمل، وجدتها عقلانية بطريقة مدهشة. فقط، كنا نُصدّق دون أن نفهم. وأحيانًا، الإيمان لا يعني أن تتوقف عن الفهم، بل أن تمضي فيه حتى تصل إلى يقين.
وهنا أصل إلى خلاصتي: الممارسة تسبق العقيدة. العقيدة تحتاج إيمانًا، والإيمان ليس بيدي ولا بيدك. هو نفحة من السماء. أما الممارسة، فهي بيدي وبيدك. فقط أقلع عن الكسل، قف، توضأ، صلّ، اذكر، اقرأ، تأمل… لا تنتظر أن “تشعر” بالإيمان، بل افعل ما يفعله المؤمن، ثم انتظر.
وأعترف: أنا لست مؤمنًا كما يريدون، ولا علمانيًا كما يحلمون. أنا إنسان. أبحث. أحاور. أسأل. أسقط. أقف. وربما هذا وحده يكفي.
أما سفيان، فابتسم عندما قلت له هذا. وقال لي: “لقد عدت من حيث بدأت، لكنك عدت بفكر مختلف. وذاك وحده نصر صغير.”