في إطار استراتيجيتها الجديدة التي أُعلنت قبل عامين، كثّفت جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية (كاوست) تعاونها مع الجهات الوطنية، ساعيةً لتحويل أبحاثها المبتكرة والرائدة عالميًا إلى فوائد ملموسة تخدم المجتمع السعودي. ومن أبرز الأمثلة على ذلك المشروع الذي يقوده البروفيسور طارق الخليفة، أستاذ هندسة وعلوم الأرض في كاوست، والعالم الباحث في كاوست عمر سعد، واللذان تواصلا مع هيئة المساحة الجيولوجية السعودية (SGS) لاستكشاف التحديات التي تواجهها في رسم الخرائط الجيولوجية لكامل أراضي المملكة. وقد أسفرت هذه المناقشات الأولية عن تطوير تقنية ذكاء اصطناعي جديدة تمكّن الهيئة من فهم النشاط الزلزالي علميًا بشكل أفضل ونشر أنظمة إنذار مبكر لحماية المباني وإنقاذ الأرواح.
وعلى الرغم من أن المملكة تُعرف بكونها منطقة صحراوية شاسعة، فإن بعض مناطقها معرّضة للنشاط الزلزالي، لا سيما في الجهة الغربية حيث تنتشر البراكين ومناطق الصدوع الجيولوجية. وقد رصدت الهيئة عشرات الآلاف من الهزات الأرضية – وإن كانت ضعيفة – خلال السنوات الخمس عشرة الماضية في منطقة حرة الشاقة، وأكثر من 3000 هزة في مايو 2009 وحده بالقرب من مدينة العيص.
تُعرف هذه الهزات المتتالية بـ “الزلازل العنقودية”، وهي شائعة في المناطق البركانية وتشكل تحديًا إضافيًا للباحثين، إذ يصعب عليهم تحديد مصدر كل هزة وتمييز الاهتزازات المختلفة. وهنا يأتي دور النظام الذكي الذي طوره الخليفة وسعد، والذي يمنح الهيئة قدرة أكبر على إجراء مسوحات دقيقة للمنطقة، مع خطط لتوسيع استخدامه في مناطق أخرى وصولاً إلى تغطية المملكة بأكملها بهذه التقنية المتقدمة.
وقال المهندس تركي السحلي، مدير أعلى مركز المخاطر الجيولوجية في هيئة المساحة الجيولوجية السعودية “تواصلت معنا كاوست، واستمعت إلى التحديات في التطوير، وقدمت حلاً علميًا مبتكرًا. هذا النظام الذكي يتفوق على التحليل اليدوي الذي اعتدناه، ويتيح لنا إجراء تحليلات متقدمة للزلازل في المملكة، ما يساعد على تحسين البنية التحتية وحماية المزيد من الأرواح.”
ومع التقدم الكبير في قدرات الحوسبة، تمكّن العلماء من الوصول إلى فهم غير مسبوق للزلازل، بما في ذلك مواقعها وقوتها، ما ساعد على وضع نماذج للتنبؤ بسلوك الزلازل المستقبلية. هذه البيانات أساسية لوضع السياسات الحكومية وقوانين البناء. ومع ذلك، لا يزال العلماء يواجهون صعوبة في بعض الأحيان في تمييز زلزال عن آخر عند حدوث الزلازل العنقودية.
وقال سعد “هناك عامل بشري في الطرق الحسابية التقليدية لدراسة الزلازل. وبينما يظل الخبراء في الصدارة، تُظهر أدوات الذكاء الاصطناعي قدرة عالية على معالجة البيانات المعقدة وفصل الزلازل المختلفة بدقة أكبر.”
ووفقًا للخبير لطفي سامي، مستشار في البرنامج الوطني للزلازل والبراكين بالهيئة، أثبتت أدوات الذكاء الاصطناعي التي طورها الخليفة وسعد أنها أداة بالغة الأهمية، قائلاً “قبل عامين، طبّقنا نظام “أنتيلوب” للكشف الآلي عن الزلازل وتحليلها في الوقت ذاته. وبالتعاون مع كاوست، أضفنا إحدى أحدث تقنيات الذكاء الاصطناعي إلى النظام. هدفنا هو إحداث نقلة نوعية في آلية رصد الموجات الزلزالية في منطقة العيص”.
وتتمثل إحدى المزايا الرئيسية لهذا النهج القائم على الذكاء الاصطناعي في قدرته على كشف الزلازل الصغيرة التي قد لا تكتشفها طرق الرصد اليدوية. ويشرح سعد أن الزلزال سلسلة من الموجات – الموجات الأولية (P) والثانوية (S) – ويعتمد خبراء الزلازل على هذه الموجات لاكتشاف الحدث الزلزالي وتحليله، مما يوفر قاعدة بيانات فائقة الدقة عن موقع الزلزال وقوته وآلية حدوثه ووقت نشأته والمعطيات الأخرى المهمة، مقارنة بالأساليب التقليدية. وتُستخدم هذه البيانات في تطوير أنظمة إنذار مبكر قادرة على تنبيه المناطق المعرضة للخطر بشكل أسرع عند وقوع الزلازل، حيث يمكن لثوانٍ أو دقائق معدودة من الإنذار المسبق أن تنقذ مجتمعات بأكملها.
وكان سعد قد بدأ مسيرته كباحث في الرؤية الحاسوبية، قبل أن ينضم إلى المعهد القومي للبحوث الفلكية والجيوفيزيقية في مصر، حيث طور تقنيات ذكاء اصطناعي لدراسة الزلازل استُخدمت في العديد من الدول. ومنذ انضمامه إلى كاوست عام 2023، حرص على توظيف خبراته لدعم مهام الهيئة.
وقال سعد “بالنسبة لي، كانت فرصة تطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي لخدمة المملكة دافعًا قويًا للتعاون مع الهيئة”.
وأوضح أن ما يميز مشروع الهيئة عن أعماله السابقة هو أن الذكاء الاصطناعي المطور في كاوست يتعامل مع البيانات في الوقت الفعلي، وهو ما أصبح ممكنًا بفضل التقدم المستمر في قدرات الحوسبة، والتحسينات في برمجيات كاوست المخصصة، وجودة البيانات التي توفرها هيئة المساحة الجيولوجية السعودية. وبعد نجاح تجربة العيص، يخطط الطرفان لتوسيع نطاق التعاون.
واختتم البروفيسور طارق الخليفة قائلاً “لدينا في كاوست شغف عميق بالعلوم، لكن دافعنا الأكبر هو توظيف العلم لصالح حياة الناس والمملكة. مثل هذا المشروع مع هيئة المساحة الجيولوجية السعودية يجسد طريقتنا في العمل. نعم، نحب أن نكون في المختبر، لكن أعظم شعور بالإنجاز هو عندما نرى أبحاثنا تتحول إلى قيمة حقيقية ملموسة”.