
بقلم: محمد أخو خاطر
مقدمة استهلالية للدراسة النقدية
ليست الكتابة عن ديوان آثار جانبية للشاعر سفيان صلاح هلال مهمة يسيرة، بل هي – بحق – تجربة تمتحن قدرة الكاتب على التماسك، وهو يتجوّل في تضاريس لغوية وفكرية تموج وتتشظى وتراوغ.
كنت كلما هممت بكتابة هذا المقال، شعرت أنني أمشي على رمال متحركة؛ كل خطوة تفتح هوّة، وكل جملة في الديوان تحمل تحتها معنى ينزلق من بين يدي كالماء. تارةً وجدتني أستحضر مثلنا الشعبي الخالد: “هخليك تمشي على العجين وما يلخبطوش“. وتارة أخرى، تخيلت نفسي كذاك الرجل العائد إلى منزله في ساعة متأخرة من الليل، يمشي على أطراف أصابعه، يتفادى صرير الأبواب، يحذر أن تدوس قدمه على قشر بيض، خشية أن تستفيق زوجه من سباتها، فتشهر في وجهه سيف النكد والعكننة!
بين هذا وذاك، وبين المحاذرة والتسلل، شعرت أن قراءة هذا الديوان ليست مجرّد عبور على نص شعري، بل هي اقتحامٌ لقلعة لغوية شُيِّدت على أعمدة من المعنى المضغوط، والصورة الملتبسة، والنبض الفلسفي الرفيع. فكأن الشاعر يتعمّد – بقوة مفردته – أن يجلد كل من يحاول فك طلاسم لغته، أو أن يحلّق دون حذر في أجوائه.
ومع ذلك، كانت الرحلة تستحق. فالديوان لا يمنحك معانيه على طبق، بل يستدعيك بكليّتك؛ أن تُصغي، وتتهجّى، وتتأمل، وتشكّ، ثم تعود إلى ذاتك متسائلًا: من الذي قرأ الآخر؟ أنا الذي قرأت القصائد؟ أم القصائد هي التي قرأتني؟

الجزء الأول: المعمار الشعري والمعنى الوجودي في “آثار جانبية“
إذا أردت أن تصف ديوان آثار جانبية، فإياك أن تكتفي بالعنوان. فهو – وإن بدا متواضعًا – لا يشي بمقدار التوتر الوجودي، والانفعال الشعري، والانفجار الإيحائي، الذي يحتضنه الكتاب في صفحاته السبعين.
الديوان، الذي فرغ الشاعر من كتابته سنة 1995، لم يُنشر إلا بعد عقدين تقريبًا، في طبعته الأولى عام 2019 عن دار “الكلمات”. وبين الفترتين، لم يكن الشاعر يخطط لعمل ديواني، بل كانت القصائد مكتوبة كأنها رسائل متقطعة، لا يجمعها سوى وجدان واحد ونفس شعري صادق. غير أن الظروف، كما أسلفنا، اقتضت أن يُنقّب الشاعر في أرشيفه، كما يُنقّب الفلاح في تربة الأجداد ليكتشف آثارًا فرعونية دفينة، فكانت هذه “الآثار الجانبية” خلاصة ما حفظه وجدان الشاعر.
وقد يكون عنوان الديوان مفارقة مقصودة؛ إذ إن القصائد ليست “آثارًا جانبية” من حيث القيمة الفنية أو المعنوية، بل هي مركز حقيقي لتجربة شاعر نضج وجدانه بعد أكثر من عشر سنوات في محراب الشعر الحر.
الشاعر – في هذا العمل – لا يقدم مرافعة لغوية، بل يستدعي وجدانًا ممتلئًا بالأسئلة، متوترًا بين الحنين والحضور، بين ضيق الوجود واتساع الذات. ولذلك تتكرر في النصوص مفردات مثل: الغياب، الانطفاء، التشظي، الصمت، الطين، الرمل، الطفولة، الماء، الرحيل، البكاء، البحر، الغناء، الطقوس، المحطة، الضياع… وهي كلها مفاتيح مشحونة بدلالات سيكولوجية وروحية.
في القصيدة التي يقول فيها:
“كم متعبٌ أنت
وكم كثير الأسئلةْ
كم مرة سألتني
عن ساعتي
وعن المسافة
واحتمالات الطريق…”
يتجسد القلق الوجودي في هيئة أسئلة معلقة، لا تنوي الوصول، بل تكشف فراغ العالم من الإجابة، وكأنّ القصيدة هنا ليست محاولة للتفسير، بل لتأبيد السؤال ذاته.
وفي قصيدة أخرى يقول:
“هل أستطيع غير حبك
لكنني في براح الله طفلًا؟
كيف أحرمك
فضلة الزمان
واقتسام المكان؟”
هنا يتحول الحب إلى مساحة إلهية، وإلى امتحان روحي، فيه شيء من الدعاء، وشيء من النبوة، وشيء من التوسل. القصيدة – عند سفيان – ليست لحظة افتتان، بل لحظة تطهير، وتحرّر، وتنازل عن الذات، لا لإرضاء الآخر، بل لبلوغ منطقة نورانية عابرة للهوية.
وفي موضع ثالث، يكتب:
“الغناء بأفعال مضارعة…
ماذا يعني
حين أن تشعر
يصير الكلّ
بشيء ما
لا يشعر”
وهنا يقدّم رؤية شعرية تأملية، لا تخلو من عبثية كونية، تتساءل عن جدوى الشعور في عالم يصير فيه الجميع إلى اللاشعور، كأن الشعر هو وحده البوصلة التي لا تهتدي، لكنها تفضح التيه.
إن هذا التوتر العميق في البنية المعنوية للديوان لا يأتي من رغبة في التفلسف، بل من صدق التجربة. فالديوان ليس لعبة لغوية، ولا بناءً على الرمال، بل هو صوتٌ خرج من الجوف، وانطبع على الورق دون زينة زائدة.
“الطفل حين يهرب الوعي
ويمشي دافقًا كأنه
ضياء نجم
ساحبًا بنانه
مع ارتفاع وانخفاض صفِّ طوب
في جدار”
هنا يتجسد الشعر كما أراده سيد قطب – حين كان شاعرًا – “حياةٌ تُجسَّد، لا معنى يُعبَّر عنه”. والطفل ليس رمزًا بريئًا هنا، بل هو ميتافيزيقا الحركة داخل النص، هو الجذر، وهو الطيف، وهو ما لا يمكن قوله إلا بالصورة.
الجزء الثاني: في التفاصيل الفنية والجمالية لديوان “آثار جانبية” — حفريات في القصيدة والتكوين
في هذا الجزء من القراءة، نتجاوز المعاني الكلية إلى العناصر الشعرية الدقيقة، نحلل الصورة، ونتأمل الجملة، ونقارب الفجوات، ونقرأ الصمت بين الكلمات.
1- البنية البصرية والفراغ الدلالي
من الملفت في “آثار جانبية” تلك المساحات البيضاء التي تحيط بالقصائد، بل وتخترقها أحيانًا. فالشاعر يتعمد أن يوزع أبياته على بياض الصفحة وكأن القصيدة ليست نصًّا فحسب، بل شكلٌ بصري، و”هندسة وجدان”.
انظر مثلًا إلى توزيع الأسطر في:
“إنها
تـتـسكّعُ
مسـتْعرضة
بعيوني …
ودمائي”
هنا لا يكتفي النص بالصورة، بل يجعل من تموضع الكلمات امتدادًا لمعناها: التسكع ليس فقط فعلاً، بل طريقة قراءة؛ والعين والدم ليستا رمزين بل أدوات إشهار للحميمية والعنف الداخلي. وكنت قد تناقشت مع الشاعر عن مضمون ذلك ومدى تأثيره على بنية النص ومدلوله، وفأعدت قراءة الديوان مرة أخرى، فوجدت شىء ما تغير بعد إدراكي لمغزى نشر الكلمات وكأنها نجمات فى فضاء وأنا أنظر إليها فى صفحة النهر لا متاهة السماء.
2- الصورة الشعرية: المفاجأة، والالتباس، والتوليد
الصورة عند سفيان لا تُركّب لأجل الزينة، بل لأجل الكثافة الشعورية، وهي تنطلق في الغالب من مفارقة، أو من مزاوجة بين ضديْن. انظر مثلًا إلى هذا المقطع:
“ثعابينُ
صارت طيورًا
عقاربُ
صارت طيورًا
صار العناقُ فضاءً”
هنا لا نقف فقط أمام تحوّلات حيوانية/كونية، بل أمام مشهد شعري سريالي يضخّم المفارقة: الزاحف يطير، المؤلم يرفرف، والعناق لا يعود لحظة، بل فضاء يحتضن المتضادات. الصورة تولد لا لتوضح، بل لتخلخل. وقد وقفت أمام تلك التراكيب مغشيًا عليٌا كى أفهم المعنى واستلهم كيف فكر الشاعر فيها قبل أن يكتبها وفى النهاية وجدت نفسي أما ان اقرأ من كتبه الشاعر أو أنزوي بعيدُا عن تلك المتاهة.
وفي مثال آخر:
“هو الحب
علمني كيف أحرس نخل المحيط
بلا ملل
كيف أعشق في كل طقس
وفي ثوب كل الفصول”
هذه استعارة طويلة يعيد فيها الشاعر تشكيل العلاقة بين الذات والكون. فالحب ليس شعورًا، بل وظيفة كونية، و”نخل المحيط” ليس إلا تضادًا شاسعًا يُحرس بالدهشة لا بالمنطق.
3- الإيقاع: تمرد على التفعيلة وانتظام في الإحساس
الديوان بأكمله كُتب على نظام الشعر الحر (التفعيلة)، لكن الملفت أن الإيقاع لا يتّكئ على الوزن التقليدي فقط، بل يعتمد على تنفس الجملة الشعورية. بمعنى أن التفعيلة قد توجد، لكنها لا تتصدر. الشاعر يتمرّد على انتظام البحر، ويُراهن على “الموسيقى الداخلية”، التي تنبع من تكرار المفردات، ومن التنقل السريع بين القصر والطول، بين السكون والانفجار.
تأمل هذا المقطع:
“يا أيها الشعر المقيم بداخل الإنسان
قل
هل أنت نجم الخبْء
أم تياه بحر في الخفاءْ؟”
إن التكرار هنا ليس تزيينًا، بل هو حركة موجية تُحاكي البحر الذي يستحضره النص، وتفتح إيقاعًا داخليًا يشبه التسبيح أكثر مما يشبه الإنشاد.
4- اللغة: نثرية عالية ومعجم متوتر
اللغة في “آثار جانبية” تميل إلى النثرية، لكنها ليست نثرًا بالمعنى التقليدي. إنها لغة توتر شعري، مشحونة بالألم، والتجريد، والجسدية أيضًا. ومفردات مثل: الجسد، الطين، اللحم، النزيف، الروح، الطفولة، الرمل، البحر، الصراخ، الدم، الزجاج… تتكرر بإصرار، لكنها تتحول كل مرة في سياقها من دلالة إلى أخرى.
في نص يقول:
“هل يمكن ردم آثار التجاعيد على دم
عليه أن يقابل طقسًا ساخنًا
دما
كيف تشق الجلد
وتدخل في خلاياك
محاربًا”
هذه صورة جسدية – شبه طبية – لكنها لا تخلو من بُعد وجودي، بل وتُقدّم المعاناة كفعل عضوي، كما لو أن الكتابة تسلّخ الجلد لتكشف العمق.
5- الثقافة الكامنة والرموز
بالرغم من بُعد النصوص عن الخطاب المباشر، فإن القارئ يلحظ ثقافة واسعة خلف السطور: من الرموز القرآنية (عمار، سمية، الطفولة في براح الله)، إلى المفاهيم الصوفية (ضياء النجم، الوجود، الغياب، الرحيق، الطفل الإلهي). بل نلمح بين السطور إشارات سياسية واجتماعية ودينية، لكنها تمر عبر شيفرة شعرية لا تتيح لها الظهور المباشر.
وهذه إحدى ميزات الشاعر: أن يقول كل شيء دون أن يعلن عن شيء. ما يجعلك حائرًا خلف المعنى هناك لا معنى.
6- القصيدة ككيان حي
لا يُنهي سفيان صلاح هلال قصائده بإجابات، بل بأسئلة. القصيدة عنده ليست بيتًا يُغلق، بل نافذة تُفتح على نافذة أخرى. هو يكتب على طريقة “تيار الوعي”، لكنه لا يغرق في الذاتية، بل يُقدّم ذاته كمرآة للآخرين.
انظر إلى ختام إحدى القصائد:
“من سوف يمسي؟
من غدا؟
وأي دم شاعر
سوف يذكر؟”
القصيدة تنتهي حيث تبدأ قصيدة أخرى، وتبقى الدائرة مفتوحة، كما لو أن الديوان كله تجربة واحدة متقطعة الأنفاس.
إن ديوان آثار جانبية ليس نصًا شعريًا فقط، بل وثيقة وجدانية – شعرية – فلسفية، تحتفي بالغياب بقدر ما تحتفي بالحضور، وبالطفل بقدر ما تحتفي بالمنفى. وهو عمل يستحق أن يُقرأ على مهل، وأن يُعاد قراءته بعيون متعددة.
وفي نهاية هذه القراءة الحرة، لا يسعني إلا أن أكرر شكري للشاعر، الذي لا زال يكتب وكأنّه يحرث اللغة ليزرع الوجدان، وأختم كما بدأت بمزحة صادقة:
أرغب أن أكون تلميذه في الشعر،
لكنه يصرّ أن يكون هو تلميذي في الرغي…
وربما اتفقنا أن لكلٍ منا مجده!
