العدم المنظم: تحوتي في مواجهة نيتشه

العدم المنظم: تحوتي في مواجهة نيتشه

محمد أخو خاطر – يكتب من الرياض

حينما التقت أقدم أسطورة بأحدث فلسفة

حين نحاول فهم الإنسان، لا نجد شيئًا أكثر كشفًا من طريقته في تفسير بداية كل شيء. وبينما تصور المصري القديم الخلق من “العدم المنظم” في مدينة الأشمونين، خرج فلاسفة القرن العشرين بنظرية مضادة لكل شكل ومعنى، تُعرف بـ العدمية (Nihilism)، وهي رؤية ترى أن الكون بلا غاية، والحياة بلا معنى جوهري. قد تبدو المسافتان الزمنية والفكرية بين الأشمونين والعدمية شاسعتين، لكن قراءة فلسفية دقيقة تكشف عن تقاطعات مذهلة — خصوصًا في تصور العدم، والخلق، والمعنى.

أولاً: الأشمونين والخلق من “العدم المنظم

في الفكر الكوني المصري القديم، كما طُوّر في مدينة الأشمونين (خمنو)، لم يبدأ الخلق بإله خالق فردي، بل من خلال ثمانية مبادئ بدائية تم تجسيدها على هيئة أربعة أزواج إلهية يُعرفون بـ الثامون المقدس (Ogdoad). هذه الأزواج لم تكن تمثل آلهة شخصانية تقليدية بقدر ما كانت رموزًا لمفاهيم وجودية أولى سابقة على الزمان والمكان، وقد توزعت على النحو التالي:

  • نون ونونيت: يمثلان المياه الأولى، وهي المادة السائلة اللاشكلية التي وُجدت قبل أي تكوين.
  • حوح وححت: يجسّدان مفهوم اللانهاية الزمنية، الزمن غير المقيد وغير المقيّد بسياق أو نهاية.
  • كيك وكاوكيت: يمثلان الظلام الكوني، وهو الظلام الأصلي الذي سبق بزوغ النور.
  • آمون وآماونيت: يمثلان الخفاء والجو غير المرئي، أي الطبيعة غير المحسوسة للوجود قبل التجلي.

تم تصوير الذكور الأربعة على هيئة ضفادع، والإناث على هيئة ثعابين، كرموز للتحوّل والدورة الكونية. ووفقًا للنصوص المصرية، فقد ظلّت هذه المبادئ في حالة كمون داخل الظلام الأزلي حتى تفاعلت، ومن خلالها خرج التلّ البدائي (Benben) الذي يمثل أول تجلٍّ للمكان، ومن ثم ظهر الإله تحوتي (Thoth) بوصفه العقل الكوني، الذي نطق بالكلمة الأولى، مانحًا الوجود قوانينه ولغته ومنطقه.

ثانياً: العدمية الحديثة… نفي المعنى وإنكار الغاية

في المقابل، العدمية كنظرية فلسفية نشأت في القرن التاسع عشر، وبلغت ذروتها في القرن العشرين مع فلاسفة مثل:

  • فريدريك نيتشه: الذي رأى أن العالم بعد “موت الإله” يعيش فراغًا قيميًا.
  • مارتن هايدغر: الذي ربط العدم بقلق الوجود الإنساني.
  • ألبير كامو: الذي اعتبر أن الكون صامت، والبحث عن المعنى عبثي بطبعه.

العدمية الحديثة لا ترى في العدم بداية خلاقة، بل نفيًا تامًا لأي هدف أو بنية. الكون، وفق هذه الرؤية، ليس له غاية، والإنسان لا يحمل رسالة ميتافيزيقية، بل يعيش في مواجهة وجود لا يُجِيب على أسئلته، ويظل فيه المعنى مهمة مستحيلة أو عبثية.

مقارنة فلسفية بين العدم في الأشمونين والعدمية الحديثة

رغم التباعد الزمني الهائل بين الفلسفتين، إلا أن المقارنة بين نظرية الخلق في الأشمونين وفلسفة العدم الحديثة تُظهر مفارقات فكرية مهمة:

في نظرية الأشمونين، العدم ليس فراغًا عدميًا بالمعنى الحديث، بل حالة أولى مملوءة بالإمكان، تتكون من مفاهيم كونية منظمة: الماء، الظلام، اللانهاية، الخفاء. هذه المبادئ ليست سلبية، بل مولّدة. في المقابل، العدمية الحديثة تنظر إلى العدم كنفي للمعنى، وإلغاء لأي بنية أو قصد. لا توجد فيها بنية أولى، بل كل ما يوجد هو عبث واستمرار للعدم في صورة حياة بلا تفسير.

في الأشمونين، يتم الخلق عبر انسجام وتفاعل رمزي بين هذه المبادئ، حتى يظهر النظام في شكل التل البدائي، ثم يأتي تحوتي ليتكلم وينطق بالعقل. في حين، لا يوجد في العدمية الحديثة أي دور للكلمة أو العقل في الخلق، بل يُترك الإنسان عاريًا في مواجهة العدم الأبكم. الرؤية المصرية تعترف بأن الإنسان يُولد في كون منظم تحكمه القوانين والنظام واللغة، بينما الإنسان العدمي يولد في عالم صامت خالٍ من التوجيه. وفي حين تنتهي نظرية الأشمونين بظهور النور والنظام والمعنى، فإن العدمية الحديثة ترى أن العدم هو الحقيقة الوحيدة المطلقة، والإنسان مجرد صدى لهذا الصمت الأبدي.

نقاط الالتقاء: العدم كأصل وكمواجهة فلسفية

رغم التناقض الجذري، إلا أن هناك نقطة التقاء لافتة: كلا المنهجين ينطلقان من الاعتراف بأن الأصل هو العدم. إلا أن الفرق الجوهري يكمن في تأويل هذا العدم:

  • في الأشمونين: العدم هو البذرة الأولى التي تحوي في جوفها عناصر الخلق، وتتطلب فقط نطق الكلمة الأولى لإطلاق النظام.
  • في العدمية: العدم هو النهاية قبل البداية وبعدها، وليس في داخله معنى يمكن أن يُستخرج، بل على الإنسان أن يخلق معنى ذاتيًا أو يستسلم للعبث.

الأشمونين واجهت العدم بـ”تحوتي” — رمز الكلمة، التنظيم، الحساب، والنطق المنطقي. الكلمة عندهم تفكك الصمت، وتنقل العالم من الكمون إلى النظام. أما الفلسفة العدمية الحديثة فقد وجدت نفسها صامتة أمام صمت الوجود، غير قادرة على استحضار أي صوت.

الإرث الفلسفي: الأشمونين تقدم بديلًا مصريًا للعدمية؟

إذا تأملنا أعمق، نجد أن فلسفة الأشمونين تمثل ردًا وجوديًا مصريًا قديمًا على نفس السؤال الذي طرحه نيتشه وهايدغر وكامو: ماذا يوجد قبل كل شيء؟ وهل هناك معنى للوجود؟

في حين أجاب العدم المعاصر: لا شيء، ولا معنى، أجابت الأشمونين: نعم، هناك مبادئ، وهناك عقل، وهناك كلمة تُنظم.
فمن قلب الماء والظلام واللانهاية، ينبثق النور، وتظهر الحكمة، وتولد الحياة. هذه الرؤية لا تضع الإنسان في مركز الكون فقط، بل تضع العقل واللغة كأداتين للخروج من العدم — وهي أطروحة تتفوق في تنظيمها الفلسفي على كثير من المدارس الوجودية المعاصرة.

تحوتي في مواجهة نيتشه

من المدهش أن تكون مدينة الأشمونين، منذ آلاف السنين، قد واجهت “العدمية” بطرق أعمق من كثير من فلاسفة العصر الحديث. لقد منحت هذه النظرية الفرعونية الخلقَ بنية، وأعادت للعقل دوره، وقدّمت تصورًا للعدم لا بوصفه نهاية، بل بداية ذات طاقة تحوّلية. تحوتي، في مواجهة نيتشه، لا يعلن “موت الإله”، بل يُحيي الكلمة الأولى. يُقيم من فوضى اللاشكل، عقلًا وكونًا ونورًا. وربما لهذا، ما زال صدى الكلمة المصرية القديمة يهمس في آذان من يحاولون فهم بداية كل شيء.

اترك تعليقاً